فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم أنه تعالى ذكر أولًا أن ذلك التمكين كان من الله لا من أحد سواه وهو قوله: {كذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الارض} ثم أكد ذلك ثانيًا بقوله: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء} وفيه فائدتان:
الفائدة الأولى: أن هذا يدل على أن الكل من الله تعالى.
قال القاضي: تلك المملكة لما لم تتم إلا بالأمور فعلها الله تعالى صارت كأنها حصلت من قبله تعالى.
وجوابه: أنا ندعي أن نفس تلك المملكة إنما حصلت من قبل الله تعالى، لأن لفظ القرآن يدل على قولنا، والبرهان القاطع الذي ذكرناه يقوي قولنا، فصرف هذا اللفظ إلى المجاز لا سبيل إليه.
الفائدة الثانية: أنه أتاه ذلك بمحض المشيئة الإلهية والقدرة النافذة.
قال القاضي: هذه الآية تدل على أنه تعالى يجري أمر نعمه على ما يقتضيه الصلاح.
قلنا: الآية تدل على أن الأمور معلقة بالمشيئة الإلهية والقدرة المحضة فأمارعاية قيد الصلاح، فأمر اعتبرته أنت من نفسك مع أن اللفظ لا يدل عليه.
ثم قال تعالى: {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} وذلك لأن إضاعة الأجر إما أن يكون للعجز أو للجهل أو للبخل والكل ممتنع في حق الله تعالى، فكانت الإضاعة ممتنعة.
واعلم أن هذا شهادة من الله تعالى على أن يوسف عليه السلام كان من المحسنين ولو صدق القول بأنه جلس بين شعبها الأربع لامتنع أن يقال: إنه كان من المحسنين، فههنا لزم إما تكذيب الله في حكمه على يوسف بأنه كان من المحسنين وهو عين الكفر أو لزم تكذيب الحشوي فيما رواه وهو عين الإيمان والحق.
ثم قال تعالى: {وَلاَجْرُ الآخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
في تفسير هذه الآية قولان:
القول الأول: المراد منه أن يوسف عليه السلام وإن كان قد وصل إلى المنازل العالية والدرجات الرفيعة في الدنيا إلا أن الثواب الذي أعده الله له في الآخرة خير وأفضل وأكمل وجهات الترجيح قد ذكرناها في هذا الكتاب مرارًا وأطوارًا، وحاصل تلك الوجوه أن الخير المطلق هو الذي يكون نفعًا خالصًا دائمًا مقرونًا بالتعظيم، وكل هذه القيود الأربعة حاصلة في خيرات الآخرة ومفقودة في خيرات الدنيا.
القول الثاني: أن لفظ الخير قد يستعمل لكون أحد الخيرين أفضل من الآخر كما يقال: الجلاب خير من الماء وقد يستعمل لبيان كونه في نفسه خيرًا من غير أن يكون المراد منه بيان التفضيل كما يقال: الثريد خير من الله يعني الثريد خير من الخيرات حصل بإحسان من الله.
إذا ثبت هذا فقوله: {وَلاَجْرُ الاخرة خَيْرٌ} إن حملناه على الوجه الأول لزم أن تكون ملاذ الدنيا موصوفة بالخيرية أيضًا، وأما إن حملناه على الوجه الثاني لزم أن لا يقال إن منافع الدنيا أيضًا خيرات بل لعله يفيد أن خير الآخرة هو الخير، وأما ما سواه فعبث.
المسألة الثانية:
لا شك أن المراد من قوله: {وَلاَجْرُ الآخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} شرح حال يوسف عليه السلام فوجب أن يصدق في حقه أنه من الذين آمنوا وكانوا يتقون، وهذا تنصيص من الله عز وجل.
على أنه كان في الزمان السابق من المتقين، وليس هاهنا زمان سابق ليوسف عليه السلام يحتاج إلى بيان أنه كان فيه من المتقين إلا ذلك الوقت الذي قال الله فيه: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24] فكان هذا شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان في ذلك الوقت من المتقين، وأيضًا قوله: {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان من المحسنين، وقوله: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} شهادة من الله تعالى على أنه من المخلصين فثبت أن الله تعالى شهد بأن يوسف عليه السلام كان من المتقين ومن المحسنين ومن المخلصين، والجاهل الحشوي يقول: إنه كان من الأخسرين المذنبين، ولا شك أن من لم يقل بقول الله سبحانه وتعالى مع هذه التأكيدات كان من الأخسرين.
المسألة الثالثة:
قال القاضي: قوله تعالى: {وَلاَجْرُ الاخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} يدل على بطلان قول المرجئة: الذين يزعمون أن الثواب يحصل في الآخرة لمن لم يتق الكبائر.
قلنا: هذا ضعيف، لأنا إن حملنا لفظ خير على أفعل التفضيل لزم أن يكون الثواب الحاصل للمتقين أفضل ولا يلزم أن لا يحصل لغيرهم أصلًا، وإن حملناه على أصل معنى الخيرية، فهذا يدل على حصول هذا الخير للمتقين ولا يدل على أن غيرهم لا يحصل لهم هذا الخير. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وقال الملك ائتوني به اسْتخلصه لنفسي}
وهذا قول الملك الأكبر لما علم أمانة يوسف اختاره ليستخلصه لنفسه في خاص خدمته.
{فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين} لأنه استدل بكلامه على عقله، وبعصمته على أمانته فقال: {إنك اليوم لدينا مكين أمين} وهذه منزلة العاقل العفيف.
وفي قوله: {مكين} وجهان: أحدهما: وجيه، قاله مقاتل.
الثاني: متمكن في المنزلة الرفيعة. وفي قوله: {أمين} ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه بمعنى آمن لا تخاف العواقب، قاله ابن شجرة.
الثاني: أنه بمعنى مأمون ثقة، قاله ابن عيسى.
الثالث: حافظ، قاله مقاتل. قوله عز وجل: {قال اجعلني على خزائن الأرض} أي على خزائن أرضك، وفيها قولان:
أحدهما: هو قول بعض المتعمقة أن الخزائن هاهنا الرجال، لأن الأفعال والأقوال مخزونة فيهم فصاروا خزائن لها.
الثاني: وهو قول أصحاب الظاهر أنها خزائن الأموال، وفيها قولان: أحدهما: أنه سأله جميع الخزائن، قاله ابن زيد.
الثاني: أنه سأله خزائن الطعام، قاله شيبة بن نعامة الضبي.
وفي هذا دليل على جواز أن يخطب الإنسان عملًا يكون له أهلًا وهو بحقوقه وشروطه قائم.
فيما حكى ابن سيرين عن أبي هريرة قال: نزعني عمر بن الخطاب عن عمل البحرين ثم دعاني إليها فأبيت، فقال: لم؟ وقد سأل يوسف العمل.
فإن كان المولي ظالمًا فقد اختلف الناس في جواز الولاية من قبله على قولين:
أحدهما: جوازها إن عمل بالحق فيما تقلده، لأن يوسف عليه السلام ولي من قبل فرعون، ولأن الاعتبار في حقه بفعله لا بفعل غيره.
الثاني: لا يجوز ذلك له لما فيه من تولي الظالمين بالمعونة لهم وتزكيتهم بتنفيذ أعمالهم.
وأجاب من ذهب إلى هذا القول عن ولايته من قبل فرعون بجوابين:
أحدهما: أن فرعون يوسف كان صالحًا، وإنما الطاغي فرعون موسى.
الثاني: أنه نظر له في أملاكه دون أعماله فزالت عنه التبعة فيه.
والأصح من إطلاق هذين القولين أن يفصل ما يتولاه من جهة الظالم على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يجوز لأهله فعله من غير اجتهاد في تنفيذه كالصدقات والزكوات فيجوز توليته من جهة الظالمين لأن النص على متسحقيه قد أغنى عن الاجتهاد فيه، وجواز تفرد أربابه به قد أغنى عن التنفيذ.
والقسم الثاني: ما لا يجوز أن يتفردوا به ويلزم الإجتهاد في مصرفه كأموال الفيء فلا يجوز توليته من جهة الظالم لأنه يتصرف بغير حقٍ ويجتهد فيما لا يستحق.
والقسم الثالث: ما يجوز أن يتولاه أهله وللاجتهاد فيه مدخل كالقضايا والأحكام، فعقد التقليد فيه محلول، فإن كان النظر تننفيذًا لحكم بين متراضيين أو توسطًا بين مجبورين جاز، وإن كان إلزام إجبار لم يجز.
{إني حفيظ عليم} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: حفيظ لما استودعتني عليم بما وليتني، قاله ابن زيد.
الثاني: حفيظ بالكتاب، عليم بالحساب، حكاه ابن سراقة، وأنه أول من كتب في القراطيس.
الثالث: حفيظ بالحساب، عليم بالألسن، قاله الأشجع عن سفيان.
الرابع: حفيظ لما وليتني، قاله قتادة، عليم بسني المجاعة، قاله شيبة الضبي. وفي هذا دليل على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بما فيه من علم وفضل، وليس هذا على الإطلاق في عموم الصفات ولكن مخصوص فيما اقترن بوصلة أو تعلق بظاهر من مكسب وممنوع منه فيما سواه لما فيه من تزكية ومراءاة، ولو تنزه الفاضل عنه لكان أليق بفضله، فإن يوسف دعته الضرورة إليه لما سبق من حاله ولما يرجوه من الظفر بأهله.
قوله عز وجل: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض}
قال ابن جرير الطبري: استخلصه الملك الأكبر الوليد بن الريان على عمل إظفير وعزله. قال مجاهد: وأسلم على يده. قال ابن عباس: ملك بعد سنة ونصف. فروى مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن يوسف قال: إني حفيظ عليم إن شاء الله لملك في وقته ذلك».
ثم مات إظفير فزوّجه الملك بامرأة إظفير راعيل، فدخل بها يوسف فوجدها عذراء وولدت له ولدين أفرائيم ومنشا ابني يوسف.
ومن زعم أنها زليخا قال لم يتزوجها يوسف وأنها لما رأته في موكبه بكت، ثم قالت: الحمد لله الذي جعل الملوك عبيدًا بالمعصية، وجعل العبيد بالطاعة ملوكًا، فضمها إليه فكانت في عياله حتى ماتت عنده ولم يتزوجها. {يتبوَّأ منها حيث يشاء} فيه وجهان:
أحدهما: يتخذ من أرض مصر منزلًا حيث يشاء، قاله سعيد بن جبير.
الثاني: يصنع في الدنيا ما يشاء لتفويض الأمر إليه، قاله عبد الرحمن بن زيد.
{نصيب برحمتنا من نشاء} يعني في الدنيا بالرحمة والنعمة.
{ولا نضيع أجر المحسنين} يعني في الآخرة بالجزاء. ومنهم من حملها على الدنيا، ومنهم من حملها على الآخرة، والأصح ما قدمناه.
واختلف فيما أوتيه من هذا الحال على قولين:
أحدهما: ثواب من الله تعالى على ما ابتلاه.
الثاني: أنه أنعم بذلك عليه تفضلًا منه، وثوابه باقٍ على حاله في الآخرة.
قوله عز وجل: {ولأجر الآخرة خيرٌ للذين آمنوا وكانوا يتقون} فيه وجهان:
أحدهما: ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا من أجر الدنيا، لأن أجر الآخرة دائم، وأجر الدنيا منقطع.
الثاني: ولأجر الآخرة خير ليوسف من التشاغل بملك الدنيا ونعيمها لما فيه من التبعة. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إنَّك الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ}
هَذَا الْمَلِكُ لَمَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَقْلِ وَالدِّرَايَةِ لَمْ يَرُعْهُ مِنْ يُوسُفَ مَنْظَرُهُ الرَّائِعُ الْبَهِجُ كَمَا رَاعَ النِّسَاءَ لِقِلَّةِ عُقُولِهِنَّ وَضَعْفِ أَحْلَامِهِنَّ، وَأَنَّهُنَّ إنَّمَا نَظَرْنَ إلَى ظَاهِرِ حُسْنِهِ وَجَمَالِهِ دُونَ عِلْمِهِ وَعَقْلِهِ وَأَنَّ الْمَلِكَ لَمْ يَعْبَأْ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَلَّمَهُ وَوَقَفَ عَلَى كَمَالِهِ بِبَيَانِهِ وَعِلْمِهِ قَالَ: {إنَّك الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} فَقَالَ يُوسُفُ: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ، وَالْحِفْظِ.
وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِالْفَضْلِ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَحْظُورِ مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ}. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إنَّك الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
قَالَ الْمَلِكُ لِيُوسُفَ: {إنَّك الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} أَيْ مُتَمَكِّنٌ مِمَّا أَرَدْت، أَمِينٌ عَلَى مَا ائْتُمِنْتَ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٌ، أَمَّا أَمَانَتُهُ فَلِمَا ظَهَرَ مِنْ بَرَاءَتِهِ، وَأَمَّا مَكَانَتُهُ فَلِأَنَّهُ ثَبَتَتْ عِفَّتُهُ وَنَزَاهَتُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْله تَعَالَى: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} كَيْفَ سَأَلَ الْإِمَارَةَ وَطَلَبَ الْوِلَايَةَ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَمُرَةَ: «لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ، وَإِنَّك إنْ سَأَلَتْهَا وُكِلْت إلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ تَسْأَلْهَا أُعِنْت عَلَيْهَا».
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّا لَا نُوَلِّي عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ؟».
وَعَنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: إنِّي حَسِيبٌ كَرِيمٌ، وَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنُ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ».
وَلَا قَالَ: إنِّي مَلِيحٌ جَمِيلٌ، إنَّمَا قَالَ: إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ، سَأَلَهَا بِالْحِفْظِ وَالْعِلْمِ لَا بِالْحَسَبِ وَالْجَمَالِ.
الثَّانِي: سَأَلَ ذَلِكَ لِيُوَصِّلَ إلَى الْفُقَرَاءِ حُظُوظَهُمْ لَا لَحَظِّ نَفْسِهِ.
الثَّالِثُ: إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، فَأَرَادَ التَّعْرِيفَ بِنَفْسِهِ، وَصَارَ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} الرَّابِعُ: أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ فَرْضًا مُتَعَيَّنًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ غَيْرُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
كَيْفَ اسْتَجَازَ أَنْ يَقْبَلَهَا بِتَوْلِيَةِ كَافِرٍ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ نَبِيٌّ؟ قُلْنَا: لَمْ يَكُنْ سُؤَالَ وِلَايَةٍ؛ إنَّمَا كَانَ سُؤَالَ تَخَلٍّ وَتَرْكٍ، لِيَنْتَقِلَ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَمَكَّنَهُ مِنْهَا بِالْقَتْلِ وَالْمَوْتِ وَالْغَلَبَةِ وَالظُّهُورِ وَالسُّلْطَانِ وَالْقَهْرِ، لَكِنَّ اللَّهَ أَجْرَى سُنَّتَهُ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ، فَبَعْضُهُمْ عَامَلَهُمْ الْأَنْبِيَاءُ بِالْقَهْرِ وَالسُّلْطَانِ وَالِاسْتِعْلَاءِ، وَبَعْضُهُمْ عَامَلَهُمْ الْأَنْبِيَاءُ بِالسِّيَاسَةِ وَالِابْتِلَاءِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَهِيَ الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي}
المعنى أن الملك لما تبينت له براءة يوسف مما نسب إليه، وتحقق في القصة أمانته، وفهم أيضًا صبره وجلده، عظمت منزلته عنده وتيقن حسن خلاله فقال: {ائتوني به أستخلصه لنفسي}.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الذي أمّ يوسف عليه السلام بتثبته في السجن أن يرتقي إلى أعلى المنازل، فتأمل أن الملك قال أولًا- حين تحقق علمه-: {ائتوني به} [يوسف: 50] فقط، فلما فعل يوسف ما فعل، فظهرت أمانته وصبره وعلو همته وجودة نظره قال: {ائتوني به أستخلصه لنفسي}، فلما جاءه وكلمه قال: {إنك اليوم لدينا مكين أمين} فدل ذلك على أنه رأى من كلامه وحسن منطقه ما صدق به الخبر أو أربى عليه، إذ المرء مخبوء تحت لسانه؛ ثم لما زاول الأعمال مشى القدمية حتى ولاه خطة العزيز.